المـصطلـح اللسانـي واضطراب الـتـداول مقاربة حول" نحو النص- التداولية- السيمياء "
Résumé
من منطلق الإيمان بأنّ "مشكلة المنهج هي مشكلة أمتنا الأولى، فلا يكون التقدم إلا بعد الاهتداء في المنهج للتي هي أقوم"([i]) في البحث والدراسة، كما أنّ العلم ليس هو المعارف المتراكمة والمعلومات المكدّسة،لأن"المعرفة هي خلاصة الممارسات العقلية للإنسان تتشكل ضمن أطر ثقافية وحضارية محددة، وتدخل في علاقة حوار ومثاقفة مع أطر ثقافية وحضارية أخرى"([ii])؛ فلابد إذن من استيعاب المعلومة أولا- وهذا جزء من المنهج- ومن ثم يتحقق فعل التحليل والتعليل والتركيب، وبغير المنهج القويم لا يمكن أن يستقيم للبحث العلمي سير، وهي مسألة لمّا تعط حظها من العناية والاهتمام، وأهم مقوّم في المنهج المصطلح، الذي كان له وفق كل هذه المعطيات والمكونات المعرفية قابلية في تعدد محددات التعريف والممارسة من باحث إلى آخر، بل حتى عند الباحث الواحد، ومن ثمة تعددت المصطلحات الدالة على المفهوم الواحد في الدراسات الغربية المؤسسة له، وانعكس الأمر على الدراسات العربية، التي فتحت الباب على كم هائل من المصطلحات أبسط ما يقال عن معظمها أنها مرتجلة وفردية وتبتعد أشواطا عن الضوابط العلمية.
وفي ضوء هذا الهدف، نطمح بهذا المقال إلى التنقيب في الممارسات العلمية المفهومية عن بعض المصطلحات اللسانية وإلى التنقيب في الدلالات اللغوية والاصطلاحية، عن بعض المصطلحات اللسانية الأكثر ترددا في الممارسات اللغوية الحديثة، وهي: نحو النص- السيمياء- التداولية، كما نهدف إلى تشخيص ضروب العلاقات الرابطة لها، بما يكشف المفاهيم الدقيقة لها، سواء تعلق الأمر بانحدارها عن أصول معينة، في حقول معرفية محددة، أم بـ " الانزياح الدلالي " الذي لحق بها، وكل هذا اقتضى الحفر في أصولها، بما يكشف عن الأهمية المعرفية لها، في سياق تكوّن الفكر الإنساني الممنهج؛ ذلك أنّ انتماء المصطلح إلى حقل دلالي_معرفي محدد يترتب عليه أن ينتظم في تعالقات خصبة تؤسس الإطار العام له كمصطلح.
واللسانيات أصل امتدّ بفروعه فاحتضن اتجاهات عديدة، ومجالات مختلفة أفرزت مدارس لسانية متنوعة، كل واحدة منها تناولت اللغة من جانب دراستها وماهيتها في التعامل مع الظاهرة اللغوية، وهي اتجاهات-في اعتقادنا- ما كان لها لتولد لولا قراءة واعية وفهم ثاقب، وممارسات في منتهى الوعي والإدراك لما جاء في كتاب دي سوسير، خاصة فكرة تفريقه بين لسانيات اللغة ولسانيات الكلام، والتي نعتبرها العامل الحافز، لميلاد هذه الفروع المعرفية؛ فالكلام أشكال: منه الملفوظ/المقول، ومنه النص والخطاب، ومنه الرسالة، ومنه الأسلوب..الخ، فمن خلال هذه الأشكال المختلفة كان على كل دراسة اختيار المصطلح المناسب لمبادئها وغاياتها، وعلى هذا الأساس كان التنوع، خاصة مع تفعيل فعل الترجمة*، كممارسة معرفية ذهنية إدراكية معقدة تعمل على نقل أفكار من لغة إلى أخرى، وتساعد على معرفة الآخر؛ يقول عنها جورج ستا نير (George Steiner): "إن الترجمة الحقيقية أي تأويل الدلائل اللغوية في لغة ما بواسطة الدلائل اللغوية في لغة أخرى، هي حالة خاصة ومعمقة لعملية التواصل والتلقي في أي فعل لغوي إنساني"[iii]؛ كون المترجم هو من يقوم باختيار المصطلح النسقي المقابل موظفا المعارف والمهارات، ورواسب مكتسبات سابقة، وأحكام معيارية يمليها التهيؤ الإدراكي والمفاهيمي له من خلال مكوناته المفهومية في نموذجها النسقي، من أجل تحديد العلاقة بين نوعين من المتغيرات يمكن إجمالهما في المعادلة التالية: (ص= م)، حيث إن:
ص= المتغير التابع، وهو المصطلح الموضوع لتفسير الظاهرة.
م= المتغير الحر- المستقل، وهو المكونات الدلالية والمرجعيات المعرفية المتحكمة بالمصطلح الموضوع.
وهي معادلة تضمن وجود خصائص معجمية ومكونات ثقافية-منطقية داخل المصطلح؛ باعتباره تمثيلا عقليا للأشياء الفردية، وقد يمثل شيئا واحدا أو مجموعة من الأشياء الفردية التي تتوفر فيها صفات مشتركة"([iv]) تضمن له موقعا داخل تصور نظري يمنحه مشروعية الوجود والاشتغال.
وفي حال تميز المصطلح بحدّي الجّمع والمنع سيصبح حصنا حصينا لكل دراسة وجد فيها، وبالتالي إلى كل علم ومجال احتضن هذه الدراسة، لأن العلاقة بين الدراسة ومصطلحاتها علاقة متينة تتسم بالتفاعل والتناغم والتبادل، كون المصطلح يمارس دورا أساسيا وفاعلا في تكوين المعرفة، وفي ذات الوقت يمكن القول إن حقل هذه المعرفة التي يتشكل فيه المصطلح يعمل على توجيه مفهومه وتحديد دلالته، فلا يستقيم صرح أية ثقافة ما لم تفلح في "إنتاج معرفة خصبة وجديدة، توجهها اصطلاحات واضحة الدلالة"([v]).
وهذا ما يبعد مظاهر عديدة كاضطراب دلالة المصطلح، وتعارض مفاهيمه، وشيوع الغموض والقلق في التراسل العلمي بين مصادر المعرفة، وجهات التلقي، الأمر الذي يعرض تراكم المعرفة ذاته إلى كثير من الصعاب منها: (عدم استقرار المفاهيم- واضطراب الوصف- والخلل في الاستقراء- والخطأ في الاستنباط واستخراج النتائج...الخ)، وهي مظاهر سيجدها متتبع اشتغال المصطلحات الثلاثة المنتقاة والمتداولة في الدراسات العربية المعاصرة جلية وبشكل لافت.
([i])الشاهد البوشيخي، مشكلة المنهج في دراسة مصطلح النقد العربي القديم، مجلة كلية الآداب والعلوم الانسانية، شعبة اللغة العربية وآدابها،جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب، عدد 4، السنة م1988/1409ه، ص20.
([ii])عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة(تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة)، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1999، ص95.
* تثير الترجمة عديد الإشكالات المعقدة : إشكالية العلاقة بين اللغات، وعلاقة اللغة والفكر، وإشكالية علاقة الفكر والعالم الخارجي.
-[iii] الجلالي كدية، الترجمة بين التأويل والتلقي، ندوة الترجمة والتأويل، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب، الرباط، المملكة المغربية، ندوات ومناظرات، رقم 47، 1995، ص52.
Helmut Frlber,Terminological Manual, Paris, 1984,p115.([iv])
([v])عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية ..، ص96.
Références
( )عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة(تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة)، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1999، ص95.
تثير الترجمة عديد الإشكالات المعقدة : إشكالية العلاقة بين اللغات، وعلاقة اللغة والفكر، وإشكالية علاقة الفكر والعالم الخارجي.
- الجلالي كدية، الترجمة بين التأويل والتلقي، ندوة الترجمة والتأويل، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب، الرباط، المملكة المغربية، ندوات ومناظرات، رقم 47، 1995، ص52.
Helmut Frlber,Terminological Manual, Paris, 1984,p115.( )
( )عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية ..، ص96.
- روجر فاولر، اللسانيات و الرواية، ص12.وينظر فان ديك، علم النص، ص 45، 46.
- أزيستلاف واورونياك، مدخل إلى علم النص، ص60.
- د. سعيد حسن البحيري، علم لغة النص، ص136.
- ينظر: أوزتسيسلاف واورزيناك، مدخل إلى علم النص، ص61. وينظر: فيهيفيجر، وهاين منه، المرجع عينه، ص27.
- ينظر: المرجع نفسه، ص24 ،25.
تعاقب الجمل من بين أهم السمات النصية عند ايزنبرج؛ لأنه الأساس في طرح وتطوير" قضية الربط" على أنها أساس وشرط لإيضاح إجراءات النص، وتكون وظيفة نحو النص هي "استنباط قواعد النص"، التي يمكن لها أن تقدم "معلومات نحوية ودلالية".
من الدراسات أيضا في هذا المجال، مؤلف لـ"أحمد عفيفي" موسوم بـ"نحو النص"، وهو كتاب صغير الحجم، يحاول الباحث من خلاله إنجاح هذه المحاولة التأسيسية، التي زاوج فيها بين التنظير والتطبيق، فحاول توضيح مجمل آرائه بأمثلة،إنه نحو غير تقليدي، حرص المؤلف على توضيح كيفية ظهوره وتطويره، ومدى إمكانية استغلاله من أجل دراسة النص الأدبي.
- أحمد عفيفي، المرجع نفسه، ص32.
- سعد عبد العزيز مصلوح في اللسانيات العربية المعاصرة (دراسات ومتناقضات) علم الكتب، القاهرة، 2004، ص221.
- المرجع نفسه، ص222.
في بحثه "نحو الجملة ونحو النص"(1995)، وهو في الأصل محاضرة ألقيت في معهد اللغة العربية بأم القرى، مكة المكرمة في الموسم الثقافي الصيفي لعام 1995.
الاطراد: هو ثبات القاعدة في الحكم على الفصحى، وما خرج عنها شاذ. أما الإطلاق، فهو أن نطلق القاعدة؛ لتصدق على كل ما قيل أو سيقال. والاقتصار، هو صفة تحيل على بحث العلاقات في حدود الجملة الواحدة دون تجاوزها إلا عند إرادة معنى الإضراب أو الاستدراك أو غير ذلك من الدلالات التي يمكن لها أن تربط بين الجملتين. والمعيارية: القاعدة في نحو الجملة هي أساس الصحة أو الخطأ، وهذا أساس توجب مراعاته في أي جملة و أي قول.
- سعد عبد العزيز مصلوح، في اللسانيات العربية المعاصرة، ص217.
- محمد الشاوش، أصول تحليل الخطاب، ج1 ، ص100.
- أحمد عفيفي، المرجع نفسه، ص92. وينظر:
Hallyday & R. Hassan, Cohesion in English ; p299.
أعاد د. عبد العزيز مصلوح نشر المقال دون نقصان، ولا زيادة، و لا تنقيح في كتابه "في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية".
رأينا في هذه المساواة مغالطة كبرى في حق الدرس اللساني، لأننا نرى أن نحو النص مختلف عن لسانيات النص، بل هو جزء منها، فنحو النص هو البحث في قضايا الربط والحذف والإحالة...الخ من الأدوار النحوية بينما اللسانيات هي البحث في قضايا الربط (جميعها) والدلالة والمعجم والسياق، أي النظر إلى النص من جميع النواحي الدلالية، والبلاغية والتداولية.
- سعد مصلوح ، في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة، عالم الكتب، القاهرة، 2006، ص224.
يذكر سعد مصلوح أن الدعوة إلى نحو النص قد ترددت في عملتين سابقتين هما: الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، الذي صدر في الكويت 1980م، و بحث (مشكل العلاقة بين البلاغة العربية و الأسلوبية اللسانية) ضمن ندوة قراءة لتراثنا النقدي، في نادي جدة الأدبي الثقافي عام 1988م في كتاب النادي الأدبي الثقافي بجدة العدد 59، و هو يشيد في هذا البحث بلفتة بارعة لأمين الخولي في تاريخ متقادم يعود إلى عام 1947م، في كتابه "فن القول-مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب"، والتي أشار فيها إلى وجوب مجاوزة حدود الجملة إلى النص في الدرس البلاغي، و يذكر أن هذه اللّفتة قد وجدت صداها نظريا عند أحمد الشايب في كتابه الأسلوب الصادر في طبعته الأولى 1939م لا تطبيقيا.
- المرجع نفسه، ص224، 225.
- الأزهر الزناد، المرجع نفسه، ص20.
- ينظر: الأزهر الزناد، نسيج النص، ص18، 19.
- ينظر: محمد الشاوش، المرجع نفسه، ص92، 93.
- أحمد عفيفي، نحو النص، ص39.
نشير هنا إلى أن من أهم ما أنكرته الفلسفة التحليلية على ذلك الفكر الفلسفي القديم أنه لم يلتفت إلى اللغات الطبيعية ولم يولها ما تستحق من الدراسة والبحث، فسعت إلى ردم هذه الهوة، باتخاذ اللغة موضوعاً للدراسة باعتبارها أولى الأولويات في أي مشروع فلسفي.،وعليه، تميز التداولية بين معنيين في كل ملفوظ أو فعل تواصلي لفظي.الأول هو القصد الإخباري أو معنى الجملة، والثاني القصد التواصلي أو معنى المتكلم.
- فليب بلانشيه، التداولية من أوستين إلى غوفمان، ترجمة: صابر الحباشة، دار الحوار، سورية، ط1، 2007، ص05.
- ينظر: فليب بلانشيه، التداولية من أوستين إلى غوفمان، ص10-11. ومسعود صحراوي التداولية عند العرب، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2005،ص 68.
- فيليب بلانشيه، المرجع عينه، ص12.
( ) فان ديك، علم النص(مدخل متعدد الاختصاصات)، ص343.
إن التداولية لا تمتلك تركيزاً واضحاً، وأن هناك توجهاً خصوصاً في الدراسات المبكرة إلى دراسة موضوعات خاصة دون وجود لمكانة للتداولية في اللسانيات ولذلك فقد اقترنت اللسانيات آنذاك باستعارة معروفة عند الدارسين وهي أن التداولية هي ” صندوق القمامة” للسانيات حيث يرمى فيها كل مالا يمكن دراسته ضمن مبادئ اللسانيات آنذاك.
( )آن ريبول&جاك موشلر،القاموس الموسوعي للتداولية، ترجمة:عز الدين المجدوب وآخرون، المركز الوطني للترجمة، تونس، ط1،2010، ص21. وينظر: ص39 من نفس الكتاب.
( ) آن ريبول&جاك موشلر،القاموس الموسوعي للتداولية، ترجمة: عز الدين المجدوب وآخرون، المركز الوطني للترجمة، تونس،ط1، 2010، ص21. وينظر ص39 من نفس الكتاب.
( ) مسعود صحراوي، التداولية عند العرب، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2005،ص 68.
( ) مسعود صحراوي، التداولية عند العرب، ص16.
( ) إدريس مقبول،الأفق التداولي-نظرية المعنى والسياق في الممارسات العربية ، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1،2012، ص08.
( ) فرديناند دي سوسير،دروس في الألسنية العامة، تعريب: صالح القرمادي ومحمد الشاوش ومحمد عجينة، الدار العربية للكتاب، الجمهورية التونسية، 1985، ص37.
والمثير للعجب أنه إلى حدّ الساعة لاتزال الدراسات النقدية العربية تحفل بعدد لابأس به من المصطلحات التي تحيل إلى هذا المجال، بل حتى في البىامج التعليمية إذ لحدّ الساعة يتد الطالب المسميات التالية: السيميائيات- علم السيمياء- السيميولوجيا..الخ، بعد كل هذه الأشواط البحثية في تحديد المصطلح، فإلى حدّ الساعة سيجد الباحث في هذا المجال تكديس وتراكم في المصطلح السيميائي بلغ حدّ المبالغة المفرطة.
( ) ألجيرداس، ج، غريماس، وجاك فونتاني، سيمياء الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم وتعليق سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، ط1، 2010، ص 17.
( ) جاك فونتاني، سيمياء المرئي، ترجمة: علي أسعد، دار الحوار، سورية،، ط1، 2003، ص225.
-Ducrot Oswald, les mots du discours, éditions de minuit, Paris, 1981, p7.
( ) فيصل الأحمر، معجم السيميائيات، الدار العربية للعلوم ، منشورات الاختلاف، بيروت/الجزائر، ط1،2010، ص18.
( ) عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة(تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة)، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 1999، ص94-95.(بتصرف)
( ) عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية ..، ص96.